728 x 90



img

بقلم: د. عبد الحميد عفانة
معالج نفسي وخبير الصدمات النفسية

الصحة النفسية لها مفهوم متكامل لا يفصل بين الجسد والمجتمع كل جانب من هذه الجوانب يكمل بعضه البعض وله قيمته وأهميته في سلامة الفرد وتكامل صحته النفسية فعندما يتمتع الشخص بالصحة النفسية بمفهومها المتكامل_الجسد والنفس والمجتمع _فإن الشخص يستطيع أن يتابع ويساير نهضة مجتمعه ونموه ولكي نعرف الفهم المتكامل للصحة النفسية يجب أن نعرف ما هو المقصود بالصحة الجسدية والصحة النفسية.
الصحة الجسدية :وهي عبارة عن التوافق بين سلامة الجسم من المرض وتكامل أعضائه وخلوه من العاهات وأن يكون هناك انسجام بين الأعضاء في أداء وظائفها.
الصحة النفسية :وهي سلامة النفس وخلوها من الصراعات التي تبعدها عن التوتر والقلق على أن يداخلها شعور بالأمان والرضا والمقدرة على بناء علاقات جيدة مبنية على احترام حقوق الغير.
وتعتبر الصحة النفسية من أحد الدعائم الهامة والرئيسية في بناء مجتمع سليم وقوي وقادر على مواجهة تحديات الحياة .وللصحة النفسية دور بناء في مجالات عديدة من ميادين الحياة ففي مجال الدين نجد علاقة قوية ووثيقة بين الصحة النفسية والدين فالنضوج النفسي له علاقة وثيقة الواجبات الدينية وقادر على تغيير السلوك الإنساني في نواحي كثيرة ،وفي الميدان الاجتماعي نجد العلاقة الوثيقة بين الصحة النفسية ومدى انتشار “الأمراض الاجتماعية” مثل الإدمان والجريمة ومخالفات القانون ،ونجد الصحة النفسية بوضوح في المدرسة وأثرها على عملية التعليم حيث يعتمد إعداد أجيال المستقبل لتكوين مجتمع قوي وفعالاً على الصحة النفسية في كثير من النواحي منها معالجة مشاكل التعلم عند الطلاب وضعف التركيز والاستيعاب وكذلك التسرب من المدرسة وضعف التحصيل .أما في مجال السلطة التنفيذية وفي مجال الشرطة مثلاً تكون الصحة النفسية عاملاً هاماً عند العاملين في هذا المجال حيث الدوافع إلى الجريمة والسرقة والإدمان على المخدرات غالباً ما تكون بسبب مشاكل نفسية صحية تؤدي إلى اضطراب في السلوك وبالتالي الانحراف ، أما في مجال التخطيط فإنه من المهم لأي خطة صحية أو اجتماعية أو تنموية أن تراعي احتياجات الناس وكلما كان المخططين على دراية ووعي بالصحة النفسية فإنهم يكونوا قادرين على تلبية احتياجات الأسرة والفرد وبالتالي المجتمع ككل لكي تؤمن لهم حياة مريحة وكريمة تساعدهم على استكمال جميع وسائل الصحة النفسية والاجتماعية التي يأملها كل مواطن مواكب للتطور المطرد في العالم من حولنا. أما في ميدان الصناعة والإنتاج فإن الصحة النفسية للعاملين ومدى توافر الراحة النفسية وشعور العاملين بأنهم جزء من العمل وتوفر الحوافز وحرية التعبير تؤدي إلى تجنب الكثير من التوترات والمشاكل النفسية .
الجدير بالذكر أن الصحة النفسية والمشاكل النفسية ارتبطت منذ القدم بالجن والتلبس تارة والتقاليد مرة أخرى.
وتطالعنا الصحف والمجلات بأعدادها المختلفة والمتنوعة متناولة مثل هذه الظواهر أحياناً بالشجب والاستنكار مما يسببه العلاج الشعبي واستخراج الجن من الجسم من مشاكل صحية ونفسية قد تؤدي إلى الموت كما حدث مع إحدى المريضات في مدينة رفح في منتصف عام 1999، أو أحياناً أُخرى بنظرة استغراب وحيرة كما حدث بتاريخ “3/2/1999” في أخبار الجزيرة وما أُشيع عن أحد البيوت القديمة في بريطانيا مسكوناً بالأرواح واستطاعت كاميرات أحد المهتمين بهذا الموضوع رصد بؤرة بيضاء تتحرك في فناء المنزل قيل أنها روح صاحبة المنزل التي ماتت بحادث مؤسف ، أو أننا نجد من يتهم مثل هذه الاعتقادات بالتخلف وتجعل الناس تعيش في أوهام القرون الوسطى كما ذكر الكاتب والمحاضر الأمريكي هارولد بلوم المحاضر في جامعة ييل في كتابه الحديث الطبعة 1999 بعنوان “نبوءات الألفية ” والذي يحذر فيه القراء من خرافات التلبس بالعفاريت ويجد في المعتقدات التي يؤمن بها الشعب الأمريكي والأوروبي ويزداد إيمانهم بها والتي تلقى رواجاً أنها تجعل الناس يعيشون في أوهام تطغى على المعتقدات الأساسية لهؤلاء الأشخاص بمختلف دياناتهم كذلك ينتقد الكاتب تفسير الأحلام والتقمص وينتقد أيضاً انتشار المبشرين الذين يشيعون ظواهر متعددة مثل التلبس بالجن وتشبيه عصرنا هذا بالعصور الوسطى .
مما لاشك فيه أن العلم الحديث لا يكتمل أبداً فهو دائماً في حال تطور ويأتينا كل يوم بما هو جديد في علوم الطب وعلوم الإنسان بناءً على التجارب والنظريات والدراسات ،وقد تطور تشخيص الإضرابات النفسية وأصبح لها معايير أكثر وضوحاً من ذي قبل ولكي يتم التشخيص يجب أن تؤخذ معلومات من الشخص نفسه وممن حوله ولا يتم التشخيص إلا بعد مطابقة هذه المعايير وهذا يتطلب وقتاً وخبرة وتدريب كاف ممن يعملون في هذا المجال ولا يتم استعمال التشخيص السريع إلا في حالة الطوارئ وحالات قليلة واضحة وبالتالي يقوم الطب النفسي على أسس تجريبية تخضع للملاحظة والتجريب والبرهان مثله مثل فروع الطب الأخرى أما أن نقول وبشكل سريع ومحكم بان هذا الشخص أو ذاك عنده تلبس بالجن أو مركوب بالجن أو العفاريت فهو أمر مختلف عن أسباب وطرق الصحة النفسية والطب النفسي الحديث وهذا أمر عُرف منذ زمن بعيد منذ العصور الوسطى ومنتشر في كثير من المجتمعات حيث يعتقد الناس بدخول أرواح شريرة أو جن في جسم الإنسان مما يؤدي به إلى تغيير سلوكه وتصرفاته ولغته أحيانا وصحته الجسمية والعقلية ونجد مثل هذه الأمور في ثقافتا الإسلامية والعربية كما نجدها في كثير من الثقافات المسيحية واليهودية والديانات الأُخرى غير السماوية .
في العصور الوسطى شهدت أوروبا انتشاراً واسعاً لكل هذه الأفكار وكان الاعتقاد بان الشخص الذي بتلبسه الجن هو شخص مطرود من رحمة الرب وسكنته الأرواح الشريرة ويتم علاجه عن طريق التعاويذ والطقوس الدينية ثم يرغم الشخص على احتساء مشروب كريه المذاق وتنتهي التعاويذ بإهانة وإيذاء الشيطان والجن المتلبس في جسد الإنسان عن طريق الإيذاء الجسدي أو يتم سجنهم مدى الحياة .
بالرغم من عدم وجود تسجيلات وتوثيق في تلك الفترة إلا أن الكثير من النساء والرجال حرقوا أحياء رغبة في التخلص من الشر وفي مجتمعنا توجد العديد من الممارسات منها المؤلم والأخر غير المؤلم لاستخراج الجن وعلاج الإضرابات النفسية فنجد الضرب المبرح والجلد أو تجويع الشخص المتلبس بالجن كي يجبر على مغادرة جسم الإنسان سواء كان هذا الخروج من إصبع رجل المريض الأكبر أذنه أو من مكان في جسمه وفي كثير من الأحيان يفقد المريض الوعي ويتعرض جسمه للجروح أو حتى ربما يفقد المريض حياته ولم يسطع المعالج إخراج الجن وفي حالات أخرى يستخدم بعض المعالجين الصدمات الكهربائية لكي يخرجوا الجن من الجسم وتوجد طرق أخرى غير مؤلمة غير مؤلمة وفي نفس الوقت غير ضارة وربما يرتح بها الشخص الملبوس مثل قراءة القراّن على رأسه أو كتابة بعض الآيات القرآنية فيما يعرف بالحجاب ويوضع حول رقبة الشخص كالعقد لحمايته من الجن ، وفي الممارسة العملية في العيادات النفسية نجد أن كثيراً من الناس يظن أن سبب الأعراض المرضية هي من تأثير العين أو السحر أو التلبس وهنا لا يستطيع المعالج النفسي المسلم أن ينكر هذه الحقيقة حيث ذكر الجن في القران الكريم والمشكلة هنا تكمن في تطبيق هذه الأفكار في كل حالة على حدة ،إذن ما هو موقف المسلم من الجن والعفاريت ؟
ما هو موقف الدين من كل من الدجالين والمعالجين الشعبيين والمعالجين بالقران ؟ ما هي مزايا وعيوب العلاج الشعبي فإذا كانت هناك مزايا فكيف مكن تقنين هذه المزايا والاستفادة منها ؟هذا ما سوف نتعرف عليه في مقالات أخرى لاحقة.